فصل: المُعَارُ فيه قَدْ تُحُقِّقا *** تَعَدَ أَوْ فَرَّطَ فيه مُطْلَقا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة ***


وَإنْ يَكُنْ أقلَّهُ فالحكمُ أنْ *** يَرْجِعُ في حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنْ

‏(‏وإن يكن‏)‏ المستحق ‏(‏أقله‏)‏ وهو النصف فدون ‏(‏فالحكم أن يرجع‏)‏ المشتري ‏(‏في حصته‏)‏ أي الأقل ‏(‏من الثمن‏)‏ وذلك لأنه لا ينفسخ العقد باستحقاق الأقل لأنه لما صح البيع في الأكثر كان الأقل تابعاً له فلم ينفسخ العقد أصلاً ولم يكن التمسك به إنشاء عقد، وإنما له أن يرجع بما ينوب الأقل من الثمن ولا كلام له في الرد ولا للبائع إلا برضاهما معاً‏.‏ ثم أشار إلى ما إذا كان البعض المستحق شائعاً وهو مفهوم قوله‏:‏ إن كان في معين الخ‏.‏ وفيه أربع صور لأنه إما أن يكون مما يقبل القسمة أم لا‏.‏ وفي كل إما أن يكون المستحق كثيراً أو قليلاً ولم يحرر الناظم ذلك بل قال‏:‏

وإنْ يَكُن على الشِّياع المُسْتَحَقْ *** وَقَبْلَ القِسْمة فالقَسْمُ استَحَقْ

‏(‏وإن يكن على الشياع المستحق و‏)‏ الحال أنه ‏(‏قبل القسمة‏)‏ كربع أو عشر من أرض أو ثياب متعددة أو دار تقبل القسمة على ذلك من غير ضرر ‏(‏فالقسم‏)‏ مفعول بقوله ‏(‏ استحق‏)‏ أي فالذي يستحقه المشتري هو المقاسمة ويتمسك بالباقي ويرجع بحصة ما استحق، وظاهره كان متخذاً للغلة أم لا وهو كذلك، وظاهره أيضاً قليلاً كان المستحق أو كثيراً وليس كذلك، بل إنما ذلك إذا كان قليلاً كما قررنا، وأما إن كان كثيراً كثلث في دار ونصف في أرض فهو بالخيار بين التمسك بالباقي ويرجع بحصة المستحق وبين الرد فيرجع بجميع ثمنه منقسماً كان أم لا متخذاً للغلة أم لا‏.‏ وبالجملة فالدار الواحدة الثلث فيها كثير والأرض النصف فيها كثير وما عدا ذلك لا خيار فيه إلا ما زاد على النصف وعليه فقول الأجهوري في نظمه المتقدم ما فات نصفاً الخ‏.‏ يعني فيما عدا الأرض والدار، ومفهوم قوله‏:‏ وقبل القسمة والموضوع بحاله من كون المستحق قليلاً هو ما أشار له بقوله‏:‏

وَالخُلْفُ في تمسُّكٍ بما بَقي *** بِقِسْطِهِ ممَّا انْقِسَامُه اتُّقي

‏(‏والخلف في تمسك بما بقي‏)‏ بعد استحقاق القليل هل له أن يتمسك به ‏(‏بقسطه‏)‏ من الثمن أو لا‏؟‏ قولان‏.‏ حكاهما ابن سلمون وذلك الخلاف ‏(‏مما‏)‏ أي في المشاع الذي ‏(‏ انقسامه اتقي‏)‏ ومنع لعدم قبوله إياه كشجرة واحدة أو دار ضيقة ونحوهما، والمعتمد أنه إذا لم يكن متخذاً للغلة فالخيار للمشتري بين التمسك بالباقي بما ينوبه وبين الرد فيرجع ثمنه، وإن كان متخذاً للغلة فلا خيار له بل يلزمه الباقي بحصته من الثمن، وبالجملة فالكثير يخير فيه مطلقاً، وأما القليل فما لم ينقسم ولم يتخذ للغلة فكذلك وما اتخذ للغلة أو انقسم فلا خيار له بل يلزمه الباقي بما ينوبه قاله الزرقاني‏.‏ قال‏:‏ وعليه فيقيد القليل في قول ‏(‏خ‏)‏ أو استحق شائع وإن قلَّ الخ‏.‏ بما إذا كان القليل غير منقسم ولا متخذ للغلة اه‏.‏ قال ابن رشد في البيان ما نصه‏:‏ إذا اشترى داراً واستحق عشرها فإن كانت لا تنقسم أصلاً أو تنقسم ولم يكن لكل جزء مدخل ومخرج على حدة أو كان لكل جزء مدخل ومخرج إلا أن القسم ينقص من ثمنها فالمشتري بالخيار في ذلك كله، وإن كانت تنقسم ولكل مدخل ومخرج ولم ينقص ذلك من ثمنها فلا خيار له، وإنما يرجع بما ينوبه وهذا في دار السكنى، وأما دار الغلة فلا ترد إلا باستحقاق الثلث اه‏.‏ بنقل ‏(‏م‏)‏ وقد اقتصر ‏(‏ح‏)‏ في الاستحقاق عند قوله‏:‏‏:‏ ّوإن استحق بعض فكالعيب الخ‏.‏ على أن استحقاق الشائع يوجب الخيار مطلقاً قلّ أو كثر وهو خلاف تقييد الزرقاني له‏.‏

وَإنْ يكُن في الْفَيءِ مَالُ المُسْلِمِ *** فهْوَ له من قبلِ قُسْمِ المغْنمِ

‏(‏وإن يكن في الفيء‏)‏ أراد به الغنيمة بدليل قوله قبل قسم المغنم، ويحتمل أن يكون أراد ما يشمل الفيء الحقيقي والغنيمة وما هو مختص بأخذه لأن ما ملك من مال الحربي إما غنيمة وهو ما أخذ بقتال وما في حكمه كفرارهم عنه بعد نزول الجيش عليهم، وإما فيء كفرارهم عنه قبل خروج الجيش وهدية الطاغية قبل دخول المسلمين بلدهم وصلحهم على مال ونحو ذلك‏.‏ وإما مختص بأخذه كهروب أسير بشيء من مالهم ونحوه، فمراده بالفيء ما يشمل الجميع إذ الحكم في الجميع واحد ‏(‏مال المسلم‏)‏ أو الذمي ‏(‏فهو له‏)‏ مجاناً حيث اطلع ربه عليه ‏(‏من قبل قسم المغنم‏)‏ أو من قبل قسم الفيء على مستحقيه أو من قبل الأسير ما هرب به، وظاهره أنه له ولو بمجرد دعواه وليس كذلك بل لا بد أن يشهد له به واحد ولو غير عدل على المعتمد كما يفيده قوله ‏(‏خ‏)‏ في الجهاد‏:‏ وأخذ معين وإن ذمياً ما عرف له قبله أي القسم مجاناً وحلف أنه باق على ملكه إلى الآن‏.‏

وَإنْ يَقُمْ من بعدِ ما قد قُسِما *** فهْوَ بهِ أَوْلى بِمَا تَقَوَّما

‏(‏وإن يقم‏)‏ ربه ‏(‏من بعد ما قد قسما‏)‏ ماله في المغنم والفيء أو من بعد بيعه ‏(‏ فهو به أولى بما تقوما‏)‏ به يوم القسمة على القول بأن الغنيمة تقسم أعيانها بعد تقويمها، وعلى القول بأنها تباع ويقسم ثمنها فهو أحق به بعد دفع الثمن الذي بيع به ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وله بعده أي‏:‏ القسم أخذه بثمنه وبالأول إن تعدد البيع الخ‏.‏ فإن عرف المال أنه لمسلم غائب حمل له إن كان الحمل خيراً وإلاَّ بيع له وحمل له ثمنه، فإن كان المال مما لا يمكله إلا المسلم كنسخة البخاري والمصحف ونحوهما ولم يعرف ربه، فالمشهور أنه يقسم بين المجاهدين تغليباً لحقهم، فإن هرب الأسير ونحوه بشيء من متاعهم وباعه فاستحقه مسلم وأثبت أنه له‏.‏ فإن المستحق لا يأخذه من يد مشتريه إلا بالثمن الذي اشتراه به ويرجع به المستحق على الأسير الذي باعه لأن الأسير لا يملك مال المسلم الذي بيد الحربي وبمجرد هروبه به إذ دار الحرب لا تملك على المشهور‏.‏

وَمُشْتَرٍ وحائزٌ ما سَاقَ مَنْ *** أُمِّنَ لاَ يُؤْخَذُ منه بالثَّمَنْ

‏(‏ومشتر وحائز‏)‏ بالهبة ونحوها ‏(‏ما ساق من‏)‏ بفتح الميم ‏(‏أمن‏)‏ بضم الهمزة وكسر الميم المشددة مبنياً للمفعول ‏(‏لا يؤخذ منه بالثمن‏)‏ أي إذا أتى المؤمن إلينا وساق معه شيئاً من أموال المسلمين فباعه من مسلم أو ذمي أو وهبه له أو لذمي فليس لمالكه المسلم أخذه من يد مشتريه أو حائزه بالهبة بثمن ولا بغيره لأنه على ذلك أعطى الصلح وعليه وقعت الهدنة، ولكن يكره لغير مالكه شراء ذلك من المستأمن ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وكره لغير المالك اشتراء سلعة وفاتت به وبهبتهم لها الخ‏.‏ ومفهوم قوله ما ساق من أمن أنه إذا لم يأت إلينا بل دخل بعض المسلمين بلدهم فاشترى منهم أو وهبوه ذلك بدارهم وقت الهدنة أو الحرب فإن ربه يكون أحق به بالثمن في البيع وبدونه في الهبة ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولمسلم أو ذمي أخذ ما وهبوه بدارهم مجاناً وبعوض به إن لم يبع فإن بيع مضى ولمالكه الثمن في الموهوب أو الزائد على الثمن الأول في البيع‏.‏

وَيُؤْخَذُ المَأْخُوذُ مِنَ لِصَ بِلا *** شيْءٍ وَمَا يُفْدى بما قَدْ بُذِلا

‏(‏و‏)‏ إذا عدا لص ونحوه على مال شخص فنهبه أو سرقه فأتى من له حرمة ووجاهة أو غيره وافتكه من يد اللص أو السارق بلا شيء فإن ربه ‏(‏يأخذ‏)‏ ماله ‏(‏المأخوذ من لص‏)‏ ونحوه ‏(‏بلا شيء‏)‏ أيضاً أي بلا أجر يدفعه لمن افتكه من اللص ونحوه ‏(‏و‏)‏ أما ‏(‏ما يفدى‏)‏ من يد اللص ونحوه بعوض فإن ربه لا يأخذه إلا ‏(‏بما‏)‏ أي بالعوض الذي ‏(‏قد بذلا‏)‏ أي أعطى فيه ولا سبيل له إليه بدونه على المختار عند الشيوخ، إذ لو أخذه مالكه بلا شيء كان سد الباب الفداء مع شدة حاجة الناس إليه قاله ابن ناجي وابن عبد السلام وغيرهما، وعليه عول ‏(‏خ‏)‏ إذ قال‏:‏ والأحسن في المفدى من أمن أخذه بالفداء الخ‏.‏ ومحله إذا لم يقدر ربه على تخليص متاعه من اللص من غير شيء وإلاَّ فيأخذه من يد فاديه بغير عوض، ومحله أيضاً إذا فداه بقصد رده إلى ربه، وأما إن فداه أو اشتراه بقصد تملكه فإن ربه يأخذه من يده مجاناً كالاستحقاق، والقول قول الفادي في أنه فداه بقصد رده إذ لا يعلم ذلك إلا من قوله‏:‏ ولا محل للتوقيف فيه، ومحله أيضاً إذا ثبت أنه فداه بذلك العوض الذي ادعاه وإلاَّ فلربه أخذه بلا شيء ما لم تكن العادة جارية بالفداء وإلاَّ فيجب عليه فداء المثل فيما يظهر‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأول‏:‏ ما تقدم من أن ربه يأخذه مجاناً حيث لم يدفع الفادي عليه عوضاً ظاهر إذا كان الفادي لم يتكلف سفراً ولا تزود لافتكاكه بل افتكه بغير سفر إليه وإلاَّ فله أجر مثله عملاً بالقاعدة المتقدمة في الإجارة وهي كل من أوصل لك نفعاً بعمل أو مال لزمك أجر العمل ومثل المال انظرها عند قوله‏:‏ والقول للعامل حيث يختلف الخ‏.‏ ثم هل يرجع ربه بتلك الأجرة على اللص والسارق والمحارب ونحوهم‏؟‏ وهو المعتمد لأنهم تسببوا في إغرامه تلك الأجرة، ففي المازونية عن أبي الفضل العقباني فيمن هرب بأمة فاستأجر ربها من يبحث عليها وأعطى عطايا على استخلاصها فقال‏:‏ على الهارب بالأمة جميع ما خسره ربها في استخلاصها ما لم يجاوز ما خسره قيمتها فلا يلزمه ما زاد على القيمة اه‏.‏

الثاني‏:‏ إذا غرم رب المال الفداء للفادي فله أن يرجع بما غرمه على اللص والسارق والمحارب ونحوهم لأنهم أخذوه بغير حق من غير خلاف في ذلك، فإذا لم يقدر عليهم وإنما قدر على بعض أهلهم وأقاربهم فينظر فإن كان أهلهم وأقاربهم يمنعونهم ويذبون عنهم إن أريد أخذهم من الإنصاف منهم فإن أهلهم وأقاربهم يؤاخذون بهم لأنهم معينون لهم على ظلمهم وهي المسألة المعروفة عند الناس بالكفاف ‏(‏خ‏)‏ في باب الحرابة والقتال‏:‏ يجب قتله ولو بإعانة الخ‏.‏ قالوا وقوله‏:‏ ولو بإعانة أي على القتل ولو بالتقوى بجاهه وإن لم يأمر بقتله ولا تسبب فيه لأن جاهه إعانة عليه حكماً عليه اه‏.‏ وإذا كان هذا في الدماء فأحرى في المال، وإن كان أهلهم لا يذبون عنهم ولا يمنعون أحداً من الانتصاف منهم فإنهم لا يؤاخذون بهم، والمعلوم من عادة قبائل الزمان اليوم هو الذب عنهم‏.‏ انظر أجوبتنا لأسئلة الإمام محيي الدين الحاج عبد القادر فقد بسطنا الكلام في ذلك والله أعلم‏.‏

الثالث‏:‏ إذا افتكه الفادي بعوض دفعه من عنده للص ونحوه، وقلنا لا يأخذه ربه إلا بذلك العوض وطلب الفادي زيادة أجرة مشيه وذهابه فقال ابن عبد السلام‏:‏ حيث دفع الفداء من عنده فلا إشكال في منعه أخذ الأجرة لما فيه من الإجارة والسلف وإلاَّ فللنظر فيه مجال اه‏.‏

قلت‏:‏ أما ما أشار إليه من إجالة النظر فلا محل له مع القاعدة المتقدمة في الإجارة، وأما ما أشار إليه من المنع للإجارة والسلف فقد قال ‏(‏ت‏)‏‏:‏ قد يغتفر ذلك للضرورة كالسفاتج إذا عم الخوف مع أن فيها صريح السلف بمنفعة للحاجة إليها‏.‏

الرابع‏:‏ إذا تلف الشيء المفدى بعد الفداء وقبل الوصول لربه فإن ذلك مصيبة نزلت بالفادي ولا شيء له على ربه من ثمن الفداء ولا من النفقة وأجرة الحمل بخلاف ما إذا أوصله إليه فإنه يجب له ذلك كله إذا أراد به أخذه قال في العمليات‏:‏

ومن فدى بغير إذن فعرض *** قبل الوصول تلف لا يفترض

الخامس‏:‏ إذا فداه بنية تملكه فاستحق من يده ففي رجوعه بالفداء على المفدى منه قولان‏.‏ الراجح منهما أن له الرجوع كمن اشترى شيئاً مغصوباً عالماً بغصبه فاستحق من يده فإن له الرجوع على الغاصب على المعتمد‏.‏

السادس‏:‏ قال في الشامل‏:‏ وفات بيع مكافىء ومشتر على المنصوص ولربه ما زاد على الثمن الأول إن كان فإن باعه من وهب له مضى على المشهور ويرجع به فقط على الموهوب له اه‏.‏ ومعناه إن من أهدى له اللص شيئاً مما غصبه فكافأه عليه بشيء أو اشتراه من اللص ولم يعلم بغصبه فيهما فباعه المشتري أو المكافىء فإنه يفوت ذلك على مالكه، فإن باعه من وهبه له اللص مضى أيضاً ولربه الثمن على الموهوب له‏.‏

فصل في العارية والوديعة والأمناء

العارية‏:‏ بتشديد الياء وقيل بتخفيفها قاله في التوضيح هي من المعاورة وهي الأخذ والإعطاء يقال‏:‏ هم يتعاورون من جيرانهم أي يأخذون ويعطون وقال الأبي‏:‏ هي من عرا كغزا بمعنى قصد فهي عريوة ثم صارت عرية لاجتماع الياء والواو فهي بمعنى مطلوبة ومقصودة‏.‏ وشرعاً قال ابن عرفة‏:‏ هي تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض فتدخل العمرى والإخدام لا الحبس فخرج بقوله‏:‏ منفعة تمليك الذوات ببيع أو هبة ونحوهما، وخرج بها أيضاً تمليك الانتفاع لأن مالك المنفعة له أن يستوفيها بنفسه أو بغيره بخلاف مالك الانتفاع كسكان المدارس والزوايا والربط فإنهم لا ينتفعون إلا بأنفسهم، وليس لهم أن يؤاجروا ذلك أو يعيروه لغيرهم والنكاح من الانتفاع لا من المنفعة، وكذا الجلوس في المسجد والسوق، وبالجملة فالانتفاع هو الذي قصد به المعطي خصوص من قام به الوصف أو خصوص ذات المعطى بالفتح كسكنى بيوت المدارس ونحوها وكمستعير منعه المالك من الانتفاع بغيره، ومنه النكاح بخلاف المنفعة فهي التي قصد فيها الانتفاع بالذات استوفاها المعطى له بنفسه أو بغيره فله أن يعيرها أو يستأجرها لمثله، وبهذا تعلم أن الحبس على قسمين منه ما قصد به المحبس خصوص تمليك الانتفاع لمن قام به الوصف كالفقراء، فهذا لا يجوز لمن استحقه أن يهبه ولا أن يؤاجره ولا أن يعيره المدة الكثيرة، ومنه ما قصد به تمليك المنفعة وذلك كالحبس على شخص معين وأعقابه مثلاً، فهذا تجوز فيه الهبة والإجارة والإعارة، واختلف في الحبس على الإمام والخطيب والمدرّس هل هو من القسم الأول أو الثاني وهو الظاهر، وخرج بقوله‏:‏ مؤقتة تمليك المنفعة المطلقة كما لو ملك عبده منفعة نفسه فإنه يصدق عليه ذلك وليس بعارية وليس عتقاً أيضاً بدليل أن الأمة إذا ملكها منفعة نفسها ثم تزوجها فإن أولادها يرقون لسيدها، وخرج به أيضاً القسم الثاني من قسمي الحبس فإنه تمليك منفعة غير مؤقتة فليس بعارية والحبس على مختار‏.‏ ابن عرفة‏:‏ لا يكون إلا مؤبداً وتسمية المؤقت منه حبساً مجاز عنده فلا يرد عليه أن الحبس قد يكون مؤقتاً كما قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولا يشترط التأبيد وخرج بقوله لا بعوض الإجارة‏.‏

وأما حدها بالمعنى الاسمي فيقال‏:‏ هي مال ذو منفعة مؤقتة ملكت بغير عوض‏.‏ وحكمه الندب لأنها معروف وإحسان والله يحب المحسنين، وقد يعرض وجوبها كغنى عنها لمن يخشى هلاكه بعدمها كإبرة لجائفة وفضل طعام أو شراب لمضطر إليه وحرمتها ككونها معينة على معصية وكراهتها ككونها معينة على مكروه‏.‏ قال القرطبي في سورة آل عمران‏:‏ من الغلول منع الكتب من أهلها‏.‏ قال‏:‏ وكذا غيرها والماعون الذي توعد الله على منعه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمنعون الماعون‏}‏ ‏(‏الماعون‏:‏ 7‏)‏ الآية‏.‏ إنما هو الزكاة المفروضة وهو الذي ذهب إليه مالك رحمه الله وجمهور أهل العلم‏.‏ وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه عارية متاع البيت الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم‏.‏

وَمَا اسْتُعِيرَ رَدُّهُ مُسْتَوْجَبُ *** وَمَا ضمانُ المُسْتَعِير يَجِبُ

‏(‏وما استعير‏)‏ أي شيء كان ‏(‏رده‏)‏ لربه ‏(‏مستوجب‏)‏ أي واجب لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ العارية مؤداة‏)‏ أي يجب ردها وتأديتها لربها بحيث لا يتركها المستعير عنده بعد أن قضى منها وطره حتى يأتي ربها إليها‏.‏ وفي الحديث الكريم إشعار بما اختاره ابن رشد من أن أجرة ردها على المستعير ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ومؤنة أخذها على المستعير كردها على الأظهر، وفي علف الدابة قولان الخ‏.‏ ومحلهما ما لم يكن عرف وإلاَّ فيحملان عليه اتفاقاً لأنه كالشرط وتكون حينئذ إجارة، إذ يجوز كراء الدابة بعلفها والعرف بفاس أن علف العارية على المستعير حيث باتت عنده فإن لم تثبت فعلى ربها كما تقدم ‏(‏وما‏)‏ نافية ‏(‏ضمان المستعير يجب‏)‏ أي لا يجب على المستعير ضمان العارية إن هلكت‏.‏

إلاَّ بقابِلِ المَغيب لَم تَقُمْ *** بَيِّنةُ عَلَيهِ أَنَّه عُدِمْ

‏(‏إلا‏)‏ بأحد أمرين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن تكون العارية وقعت ‏(‏بقابل‏)‏ أي في قابل ‏(‏ المغيب‏)‏ عليه فالباء بمعنى ‏(‏في‏)‏ وذلك كالثياب والسفينة السائرة والحلى وسائر العروض، فإنه إذا ادعى تلف شيء من ذلك فإنه يضمنه لآخر رؤية رئي عنده حيث ‏(‏لم تقم بينة عليه‏)‏ ب ‏(‏أنه‏)‏ قد ‏(‏عدم‏)‏ وتلف بغير سببه، فمفهوم قابل المغيب أنه إذا كان لا يقبل الغيبة عليه كالحيوان والعقار وسفينة بالمرسى لا ضمان عليه إن ادعى تلفه وهو مصدق فيه ما لم يظهر كذبه كدعواه موت دابة يوم كذا فشهدت بينة بأنها ريئت عنده بعد ذلك أو دعواه موتها في رفقة أو مدشر ولم يعلم أحد منهم بموتها، ومفهوم لم تقم بينة عليه أنه إذا شهدت بينة بتلف ما يغاب عليه بغير تفريط لم يضمن لأن الضمان إنما هو للتهمة، وقد انتفت بقيام البينة فإن شهدت، أنه تلف بتعديه أو تفريطه وهو الأمر الثاني من الأمرين فهو ضامن كما قال عاطفاً على قابل المغيب أي لا ضمان إلا في قابل للمغيب‏.‏ أو ما المُعَارُ فيه قَدْ تُحُقِّقا *** تَعَدَ أَوْ فَرَّطَ فيه مُطْلَقا

‏(‏أو‏)‏ في ‏(‏ما‏)‏ أي في الذي ‏(‏المعار فيه‏)‏ يتعلق بقوله ‏(‏قد تحققا تعد‏)‏ نائب الفاعل بتحققا ‏(‏أو فرط‏)‏ بالبناء للمفعول أو الفاعل ‏(‏فيه مطلقا‏)‏ كان مما يغاب عليه أم لا وقد تحصل منه أن ما ثبت فيه تعد أو تفريط يضمنه مطلقاً وما لم يثبت ذلك فيه ففيه تفصيل فإن كان مما لا يعاب عليه فلا ضمان إلا أن يظهر كذبه فإن ادعى تلف دابة ولم يظهر كذبه فلا يضمنها ويضمن سرجها ولجامها، وما كان مما يغاب عليه فهو ضامن إلا أن تقوم بينة على تلفه بغير سببه، وظاهره أنه يضمن المغيب عليه مع عدم البينة، ولو شرط نفي الضمان عنه وهو كذلك على المشهور‏.‏ ابن ناجي‏:‏ وبه الفتوى ومقابله أنه لا ضمان عليه، ورجحه اللخمي والمازري قالا‏:‏ لأن العارية معروف وإسقاط الضمان معروف آخر لا مانع منه وهو الجاري على ما لابن أبي زيد عن أشهب في الصانع‏:‏ يشترط أن لا ضمان عليه إن شرطه عامل لأنه إذا انتفى في الصانع مع الشرط فأحرى في المستعير لأنه فعل معه معروفاً من وجهين كما علمت، وظاهره أيضاً أنه لا ضمان عليه فيما لا يقبل الغيبة ولو شرط عليه الضمان وهو كذلك ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وضمن المغيب عليه إلا ببينة وهل إن شرط نفيه تردد لا غيره ولو بشرط الخ‏.‏ لكن العارية مع شرط الضمان تنقلب إجارة لأن الشرط المذكور يخرج العارية عن حكمها إلى الإجارة الفاسدة لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا بشرط أن يحوزها في ضمانه فهو عوض مجهول يرد إلى المعلوم فيلزمه إجارة المثل في استعماله العارية قاله ابن رشد‏.‏ وهو مقدم على اللخمي القائل‏:‏ إنها لا تنقلب إجارة مع الشرط بل تمضي على حكم العارية ولا ضمان عليه ولا أجر لأن القاعدة عند الشيوخ أن ما استظهره ابن رشد من عنده مقدم على ما استظهره اللخمي من عنده أيضاً كما قاله الزرقاني عند قوله في الزكاة‏:‏ كالتمر نوعاً أو نوعين وقد تقدم التنبيه عليه أول الكتاب فلا تلتفت إلى ما للشيخ الرهوني في حاشيته‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ مثل قيام البينة في قابل الغيبة ما إذا أتى بالثوب محروقاً أو به قرض فار أو نحو ذلك مما يعلم أن إتلافه نشأ عن غير فعله‏.‏ قال في الشامل‏:‏ وحلف ما فرط فيما علم أنه بلا سببه كسوس وقرض فار وحرق نار الخ‏.‏ ونحوه قول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وحلف فيما علم أنه بلا سببه وكسوس أنه ما فرط الخ‏.‏ إذ من جملة ما يدخل تحت الكاف قرض الفار والنار وهو الذي عزاه اللخمي لابن القاسم في المدونة، واختاره ابن رشد‏.‏ ابن رحال‏:‏ وهو الراجح لأنه محمول على أن النار ليست من سبب كما لأبي الحسن وابن ناجي اه‏.‏ وذكر مصطفى أن حرق النار ليس كالسوس وقرض الفار لأن النار يحتمل أن يكون هو الذي تسبب في إيقادها فيجب ضمانه حتى يثبت أنها بغير سببه كما قاله في تضمين الصناع من المدونة‏.‏ وانتصر له الشيخ الرهوني في حاشيته‏.‏ وبالجملة‏:‏ فهما قولان في المدونة، ولكن المعتمد أن حرق النار كقرض الفار إذ الأصل عدم العداء وأن النار ليست من سببه، ولذا سوى بينهما في الشامل‏.‏ وقال ‏(‏خ‏)‏ في الرهن‏:‏ ولم تشهد بينة بحرقه فلم يشترطا في عدم الضمان قيام البينة على كون النار ليست من سببه، ولا سيما وقد اختاره ابن رشد وهو مقدم على غيره كما مر‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ إذا استعار نحو الفأس والمنشار والسيف للقتال ونحو ذلك فأتى بشيء من ذلك مكسوراً فقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ وبرىء في كسر كسيف إن شهد له أنه معه في اللقاء أو ضرب به ضرب مثله الخ‏.‏ وهذا قول ابن القاسم في المدونة‏.‏ وقال عيسى بن دينار ومطرف وأصبغ‏:‏ لا ضمان عليه في ذلك إذ أتى بما يشبه ويرى أنه ينكسر في ذلك الفعل بل يصدق بيمينه‏.‏ ابن حبيب‏:‏ وبه أقول‏.‏ ابن يونس‏:‏ وهو عندي أبين‏.‏ ابن رشد‏:‏ وهو أصوب الأقوال‏.‏ ابن عبد السلام‏:‏ وهو أقرب لأن المستعير قد فعل ما أذن له في فعله ولم يقم دليل على كذبه بل قام ما يصدقه اه‏.‏ فيجب أن يكون هذا القول هو المعتمد لما ترى من اختيار الشيوخ له، ولأن الأصل عدم العداء، وسبب الخلاف هل يقاس تعييب الشيء المعار على ذهاب عينه أم لا‏؟‏ فمن جعل تعييبه كذهاب عينه قال‏:‏ المستعير ضامن، ومن جعل تعييبه مخالفاً لذهاب عينه قال‏:‏ يصدق بيمينه‏.‏ ثم ما تقدم من أنه يحلف ما فرط الخ‏.‏ هو عام فيما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، فإن نكل فيضمن القيمة بمجرد نكوله لأنها يمين تهمة‏.‏ وتعتبر القيمة يوم انقضاء أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه قال ابن رشد‏:‏

وَالقولُ قولُ مُسْتعِير حَلَفا *** في رَدِّ ما اسْتَعَارَ حَيْثُ اخْتَلَفَا

‏(‏والقول قول مستعير‏)‏ من نعته وصفته ‏(‏حلفا في رد ما استعار‏)‏ يتعلق بقوله ‏(‏حيث اختلفا‏)‏ وهذا إذا كان لا يغاب عليه ‏(‏خ‏)‏ كدعواه رد ما لم يضمن الخ‏.‏ وإلا فالقول للمعير في عدم رده كما قال‏:‏

ما لم يكن مما يُغَابُ عَادَه *** عليْهِ أَوْ أُوخِذَ بالشِّهَادَه

‏(‏ما لم يكن‏)‏ الشيء المعار ‏(‏مما يغاب عاده عليه‏)‏ كالعروض والحلى ونحوهما ‏(‏أو‏)‏ مما لا يغاب عليه ولكن ‏(‏أخذ‏)‏ من يد المعير ‏(‏بالشهادة‏)‏ المقصودة للتوثق وتقدمت حقيقتها في القراض‏.‏

فالقولُ للمُعِيرِ فِيمَا بَيَّنَه *** وَمُدّعِي الرَّدِّ عليْه البيِّنَه

‏(‏فالقول‏)‏ في الصورتين حينئذ ‏(‏للمعير فيما بينه‏)‏ أي ادعاه عليه من عدم ردها ‏(‏ ومدعي الرد‏)‏ في الصورتين وهو المستعير ‏(‏عليه البينة‏)‏ أنه ردها ومثل العارية في ذلك كله الوديعة والشيء المستأجر والقراض والرهن والصناع قال في المقدمات‏:‏ كل موضع يصدق فيه القابض في دعوى الضياع مثل الوديعة والقراض ورهن ما لا يغاب عليه فإنه يصدق في دعوى الرد إذا قبضه بغير بينة فإن قبضه ببينة لم يصدق في الرد ثم قال‏:‏ وكل موضع لا يصدق فيه دعوى الضياع لا يصدق فيه في الرد قبض بينة أم لا‏.‏ وتقدم أن المكتري لا ضمان عليه فيما يغاب عليه وما لا يغاب عليه كما مرَّ في فصل أحكام من الكراء حيث قال‏:‏

ومكتر لذاك لا يضمن ما *** يتلف عنده سوى أن ظلما

فيقتضي أنه مصدق في الرد مطلقاً ما لم يقبضه ببينة، وبه تعلم أن الحلى ونحوه الذي يكرى لتزيين العروس لا ضمان فيه، وأنه مصدق في ضياعه كما يصدق في رده ما لم يقبضه ببينة، فلو اكترى دابة فلما قدم قال‏:‏ أودعتها لأنها وقفت علي في الطريق فإنه يصدق ولو أنكر المودع عنده ولا ضمان عليه لأن الشأن دفع الودائع بغير بينة كما تقدم في باب الكراء‏.‏ وانظر شرح الشامل عند قوله في الوديعة‏:‏ ولا يصدق إن خاف عورة موضعه، وظاهر النظم و‏(‏خ‏)‏ أنه يصدق في دعوى رد ما لا يغاب عليه حيث أخذه بغير بينة، ولو رده مع عبده أو غلامه أو غيرهما وهو كذلك كما في ابن سلمون، وإذا ادعى الرسول أنها عطبت أو ضلت فلا يضمن المستعير لأن شأن الناس على ردها مع الرسول، ولو لم يعلم ضياعها إلا من قوله ولو غير مأمون كما في ‏(‏ح‏)‏‏.‏

والقولُ في المُدّةِ للمُعيرِ *** مَعْ حَلْفِهِ وَعَجْزِ مُسْتَعِير

‏(‏والقول‏)‏ في اختلافهما ‏(‏في المدة‏)‏ فقال المستعير‏:‏ أعرتني ليومين أو شهرين، وقال المعير‏:‏ بل ليوم أو شهر، وكان ذلك قبل انقضاء المدة التي يدعيها المستعير بدليل قوله بعد‏:‏ والقول من بعد الركوب ثبتا الخ‏.‏ ‏(‏للمعير مع حلفه‏)‏ بسكون اللام ‏(‏وعجز مستعير‏)‏ عن إثبات ما يدعيه، وفهم من قوله‏:‏ مع حلفه أن العارية تلزم بالعقد وهو كذلك وإلا لم يكن على المعير يمين فإن أثبت المستعير ما يدعيه من المدة ونكل المعير فالقول له‏.‏

كَذَاكَ في مَسَافَةٍ لما رَكِبْ *** قبلَ الرُّكوب ذَا لَهُ فيه يَجِبْ

‏(‏كذاك‏)‏ تجب اليمين على المعير ‏(‏في‏)‏ قدر ‏(‏مسافة لما ركب‏)‏ بالبناء للمفعول أو الفاعل أي لما شأنه أن يركب أو يحمل عليه إذا اختلفا ‏(‏قبل الركوب‏)‏ أو الحمل أصلاً أو بعد ركوب أو حمل المتفق عليه فقال المستعير‏:‏ أعرتني لبلد كذا، وقال المعير‏:‏ لبلد أقرب منه أو أسهل منه ‏(‏ذا‏)‏ أي كون القول ‏(‏له‏)‏ أي للمعير ‏(‏فيه‏)‏ أي الاختلاف المفهوم من السياق مقدار أو في مسافة وقبل الركوب متعلقان به ‏(‏يجب‏)‏ خبر عن اسم الإشارة، والتقدير‏:‏ ذا أي كون القول للمعير يجب ويثبت في الاختلاف في قدر مسافة لمركوب قبل ركوبه حال كون القول له كذلك أي مع يمينه كما في المسألة قبلها و‏(‏ما‏)‏ على هذا مصدرية، وإذا حلف المعير في هذا الموضوع خير المستعير في ركوب المسافة المحلوف عليها أو الطريق السهلة وفي أن يترك ولا يركب ولا يحمل شيئاً كما قال‏:‏

والمدّعي مخيَّرٌ أنْ يَرْكبا *** مِقْدَارَ مَا حَدَّ له أَوْ يَذْهَبا

‏(‏والمدعي مخير‏)‏ في ‏(‏أن يركبا مقدار ما حد له أو يذهبا‏)‏ وكذا يخير في اختلافهما في المدة، وإذا اختار الركوب والحمل فلا تسلم له الدابة إن خشي منه العداء بركوب الطريق الصعبة أو إلا بعد إلا بتوثق منه‏.‏ ثم أشار إلى مفهوم قوله قبل الركوب فقال‏:‏

والقولُ من بَعْدِ الرّكُوبِ ثَبَتا *** لِلْمُسْتَعير إنْ بِمُشْبِهٍ أَتَى

‏(‏والقول من بعد الركوب‏)‏ للمسافة المختلف فيها كلها أو ركوب المدة المختلف فيها أيضاً ‏(‏ثبتا للمستعير‏)‏ لأن الأصل عدم العداء ‏(‏إن بمشبه أتى‏)‏ وحينئذ فلا كراء عليه إن سلمت ولا ضمان عليه إن عطبت أو تعيبت‏.‏

وَإن أَتَى فيه بما لا يُشْبِه *** فالقولُ للمعير لا يَشْتَبه

‏(‏فإن أتى فيه بما لا يشبه‏)‏ كدعواه مسافة لا يعير الناس أو هذا المعير إلى مثلها أو مدة كذلك أو أتى بما يشبه فيهما ونكل عن اليمين ‏(‏فالقول للمعير لا يشتبه‏)‏ أي لا يلتبس بشيء ويأخذ كراء تلك الزيادة إن سلمت ويخير في أخذ قيمتها أو كراء الدابة إن عطبت كزيادة الحمل فيما يظهر ‏(‏خ‏)‏ مشبهاً في كون القول للمعير كزائد المسافة إن لم يزد، وإلا فللمستعير في نفي الضمان والكراء يعني إن أشبه وإن برسول مخالف للمعير أو المستعير‏.‏

والقولُ قَوْلُ مدّعي الكِراءِ في *** ما يُسْتَعارُ مع يمينٍ اقْتفي

‏(‏و‏)‏ إن أخذ شخص دابة من غيره أو ثوباً ونحوه فانتفع بذلك وادعى أنه أعاره إياه وادعى ربها كراءها له ف ‏(‏القول قول مدعي الكراء‏)‏ لأن المستعير ادعى عليه معروفاً والأصل عدمه ‏(‏في ما‏)‏ أي في الشيء الذي ‏(‏يستعار مع يمين‏)‏ منه على ذلك فيؤخذ منه توجه اليمين في دعوى المعروف وهو المشهور وتقدم نحوه في الضمان ‏(‏اقتفي‏)‏ أي اتبع نعت ليمين، فإن نكل حلف المستعير فإن نكل غرم الكراء وهذا ما لم يكن مثله لا يكري الدواب لشرف قدره وعلو منصبه وإلاَّ فالقول للمستعير قاله ابن القاسم وهو معنى قوله‏:‏

ما لَمْ يَكُن ذَلِكَ لا يَليقُ *** بهِ فَقَلْبُ القَسَم التّحَقيقُ

‏(‏ما لم يكن ذلك لا يليق به‏)‏ أي بالذي ادعى الكراء ‏(‏فقلب القسم‏)‏ على المستعير هو ‏(‏التحقيق‏)‏ فيحلف ولا كراء عليه، فإن نكل حلف المعير وأخذ كراءه فإن نكل أيضاً فلا شيء له ‏(‏خ‏)‏ وإن ادعاها الآخذ والمالك الكراء فالقول له بيمين إلا أن يأنف مثله عنه الخ‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأول‏:‏ ما تقدم من كون القول لربها ولزوم الكراء ظاهر إذا كان الشيء قائماً أو قامت على هلاكه بينة أو كان مما لا يغاب عليه ولم تقم بينة بأنه تلف بتفريط ممن كان بيده، وأما إن كان مما يغاب عليه ولم تقم بينة بتلفه فمقتضى كون القول لربه حيث كان مثله لا يأنف من ذلك أنه يجب الكراء ويسقط الضمان لأن الكراء لا ضمان فيه ولو فيما يغاب عليه كما مر، والغالب حينئذ أن ربها إنما يدعي الكراء في هذه الصورة إذا كان أكثر من قيمة ذلك الشيء، فإن تساويا فالمال واحد ويظهر أنه لا يمين على المالك إذ ذاك لأنه قادر على أخذ ذلك بإقرار منازعه وإن كان الكراء أقل فلا يدعيه غالباً وعلى تقدير ادعائه ذلك فعدم الحلف أحرى من صورة المساواة قاله الشيخ الرهوني‏.‏

الثاني‏:‏ عكس هذه المسألة وهو أن يدعي ربها العارية ويدعي الآخر الكراء لئلا يضمن قد تقدم حكمه في فصل أحكام الكراء عن ابن سلمون وصاحب المعيار‏.‏

الثالث‏:‏ سئل ابن القطان عمن ذهب إلى صهره يستعير منه حمارة فلم يجده ووجد الحمارة فأخذها ثم ردها وهي مريضة فعطبت في دار صاحبها، فلما قدم صاحبها أنكر مرضها وذهب إلى إغرام دابته بعد أن سكت مدة من ثلاثة أعوام لم يطلبها إلا بعد خصام وقع بينهما‏.‏ فأجاب بأن له طلب حقه ويضمن أخذ الدابة قيمة الدابة اه‏.‏ نقله ابن سلمون‏.‏ قلت‏:‏ ما لابن القطان ظاهر إذا لم تكن هناك عادة بالإعارة وإلا فلا، وظاهر أيضاً حيث لم يطلبها إلا لخصام وقع بينهما فقد قال القوري في الأقارب والأصهار ومن في معناهم‏:‏ يأخذ أحدهم متاع الآخر من غير مشورته ولا إذنه، وذلك على عادتهم وسيرتهم إلى أن هلك بعض المأخوذ من المستعير لا ضمان على المستعير حيث ثبتت عادتهم بذلك وكانت مما لا يغاب عليه وهلكت لغير تضييع ولا تفريط‏.‏ قال‏:‏ وقد نص اللخمي على أن كل ما لا يطلب إلا عند المشاجرة والمخاصمة لا يحكم به لطالبه اه‏.‏ ونحوه في البرزلي عن ابن الحاج فيمن غارت عليهم خيل العدو، وعادتهم أن من وجد فرساً ركبه فأخذ العدو الفرس غلبة وقهراً عليه أنه لا ضمان عليه اه‏.‏ باختصار‏.‏

الرابع‏:‏ لا يجوز الصلح على شيء قد فات حتى تعرف قيمته ويكون الصلح بمعجل لا بمؤجل لئلا يكون ديناً بدين، وقد تقدم ذلك في الصلح ثم أشار الناظم إلى بعض أحكام الوديعة فقال‏:‏

فصل في الوديعة

وهي بالمعنى المصدري كما قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ توكيل على مجرد حفظ مال فخرج به إيداع الأب ولده لمن يحفظه لانتفاء لوازم الوديعة من الضمان ونحوه، وخرج أيضاً الأمة المتواضعة لأن القصد إخبار الأمين بحيضتها وعدمه لا حفظها، وخرج بقوله مجرد حفظ الخ‏.‏ الإجارة على حراسة المال ويشمل قوله مال الرباع ونحوها، وإذكار الحقوق لأنها منضمة للمال وتحفظ لأجله وبالمعنى الاسمي مال نقل لمجرد حفظه‏.‏

وَيضْمَنُ المُودَعُ معْ ظُهُورِ *** مخَايلِ التَّضييع والتّقصيرِ

‏(‏ويضمن المودع‏)‏ بفتح الدال الرشيد ما تلف من الوديعة ‏(‏مع ظهور مخايل‏)‏ أي دلائل ‏(‏التضييع‏)‏ منه كلبس الثوب المودع وركوب الدابة المودعة فهلكا وقت الانتفاع بهما ‏(‏والتقصير‏)‏ في الحفظ كعدم تفقد الثوب المودع حتى تسوس كما في الزرقاني عند قوله في العارية‏:‏ وحلف فيما علم أنه بلا سببه الخ‏.‏ قائلاً يؤخذ من هذه المسألة أنه يجب عليه تفقد العارية، وكذا يجب عليه تفقد الرهن والشيء المودع الخ‏.‏ ومن ذلك من أودع مائة مثقال مثلاً فجعلها في داره على سريره أو في كوة ولو غير نافذة وسرقت، فإنه يضمنها لأنه مضيع ومفرط بالنسبة إلى أهل بيته وتقطع يد السارق إذا سرقها لأن المودع عنده ليس بمضيع لها بالنسبة إلى الأجنبي قاله السوداني ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وضمن بسقوط شيء من يد المودع عليها وضمن أيضاً بانتفاعه بها فهلكت وبخلطها حيث تعذر تمييزها وبنسيانها في موضع إيداعها وبدخوله الحمام بها وبخروجه بها يظنها له فتلفت، لا إن نسيها في كمه فوقعت أي سقطت أو شرط عليه الضمان فلا ضمان عليه‏.‏

ولا ضَمَان فِيهِ للسَّفيهِ *** وَلا الصَّغِير معْ ضَياعٍ فِيهِ

‏(‏ولا ضمان فيه‏)‏ أي في الشيء المودع والمعار ‏(‏للسفيه‏)‏ أي عليه فالللام بمعنى ‏(‏على‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أسأتم فلها‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 7‏)‏ ‏(‏ولا‏)‏ على‏.‏ ‏(‏الصغير‏)‏، المميز وأحرى غيره ‏(‏مع ضياع فيه‏)‏ أي في الشيء المودع وشمل كلامه ما إذا قامت بينة على تضييعهما أو تقصيرهما أو تعمدهما للإتلاف، ومجرد الدعوى من وليهما بذلك فالكل لا ضمان فيه لأن ربها سلطه عليها ولو ضمن لبطلت فائدة الحجر، اللهم إلا أن يصون به ماله فيضمن في المال الذي صونه أي حفظه خاصة، فإذا باع الوديعة مثلاً وصرف بعض ثمنها في نفقته التي لا غنى عنها وتلف البعض الآخر أو أكل بعضها وتلف البعض الآخر فلا يضمن إلا القدر الذي صرفه في نفقته التي لا غنى له عنها دون الذي تلف أو التي له غنى عنها ويضمن في المال الذي كان بيده وقت الإنفاق فقط، فإن تلف ما كان بيده وقتئذ أو لم يف بما أنفقه وأفاد غيره لم يضمن فيه قاله اللخمي وغيره‏.‏ وحاصله أن يضمن الأقل مما بيده أو أنفقه فإذا كان المال الذي بيده يساوي عشرة الوديعة عشرون وقد أنفقها لم يضمن إلا عشرة، وكذلك العكس وهو محمول على أنه أنفقه فيما له غنى عنه حتى يثبت أنه أنفقه فيما لا غنى عنه فيضمنه حينئذ كما قاله ابن رشد‏.‏ ويأتي هذا أيضاً أول باب الرشد، ومفهوم الإيداع أن المحجور صغيراً كان أو كبيراً إذ أتلف ما لم يودع عنده ولا أمن عليه فإنه يضمنه ويتبع به في ذمته إن لم يكن له مال وقت الإتلاف قال في المدونة‏.‏ ومن أودعته وديعة فاستهلكها ابنه فذلك في مال الابن فإن لم يكن له مال ففي ذمته اه‏.‏ وهو منطوق قول ‏(‏خ‏)‏ وضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه، ومفهومه هو ما صرح به في الوديعة حيث قال‏:‏ وإن أودع صبياً أو سفيهاً أو أقرض أو باع فأتلف لم يضمن الخ‏.‏ وهو ما للناظم هنا وسيأتي عند قول الناظم أيضاً في الحجر به وكلما أتلفه المحجور فغرمه من ماله المشهور الخ‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ إذا أودع المحجور وديعة عند رشيد فتلفت فإن الرشيد يضمنها ولو تلفت بغير سببه ولو لم يعلم الرشيد بحجره قاله الرزقاني وهو ظاهر لتعديه بقبضها ونقلها بغير إذن معتبر، بل ذكر المواق عن البرزلي عند قول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وإن أودع صبياً الخ‏.‏ أن أبا محمد بن أبي زيد أفتى بضمان رجل أعطاه صبي مالاً ثم رده عليه لأنه رد لمن يجوز له أن يعطاه اه‏.‏ وأما المحجور إذا أمن محجوراً أو عامله فأتلف الثمن فإن الضمان على المتلف بكسر اللام قاله ابن رحال عند قوله في النكاح‏:‏ ولولي صغير فسخ عقده الخ‏.‏

الثاني‏:‏ من أدى عن محجوره ما لزمه من متاع كسره أو أفسده أو اختلسه فإنه يرجع عليه به في ماله ويتبع به في ذمته لم يكن له مال، وهذا إن لم يؤمن عليه فإن كان قد أمن عليه لم يتبع به في ذمته، وإنما يرجع عليه في المال الذي بيده إن كان صون به ماله لا فيما أفاد بعد ذلك‏.‏

وَالتَّجْرُ بالمودَعِ مِنْ أَعْمَلَهُ *** يَضْمَنُه وَالرِّبْحُ كلُّه لهُ

‏(‏والتجر بالمودع‏)‏ مبتدأ ‏(‏من‏)‏ مبتدأ ثان ‏(‏أعمله‏)‏ صلته والضمير للتجر ‏(‏يضمنه‏)‏ أي المودع بالفتح ولو تلف بغير سببه لأن التجر به يتضمن سلفه وضمان السلف من المتسلف ‏(‏ والربح‏)‏ الحاصل بسبب التجارة ‏(‏كله له‏)‏ أي للمودع بالفتح لأن الخراج بالضمان وإنما يطيب له الربح إذا رد رأس المال كما هو وإلا فلا يحل له منه قليل ولا كثير قاله بعض المتأخرين، وظاهر النظم أن الربح كله له كانت الوديعة عيناً أو مثلياً أو مقوماً وهو كذلك غير أنه إذا كانت مقوماً أو كان المودع بالفتح معدماً حرمت التجارة ابتداء، وإن كانت عيناً أو مثلياً كرهت ابتداء أيضاً ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وحرم أي على المودع سلف مقوم ومعدم وكره النقد والمثلى كالتجارة والربح له وبرىء إن رد غير المحرم الخ‏.‏ أي إذا تسلف الوديعة ليتجر بها ونحو ذلك‏.‏ وادعى رد مثلها لمحله فإن كان لا يحرم تسلفها كالنقد والمثلى فإنه يصدق في رده وفي تلفه بعده، وإن كان يحرم تسلفها كالعرض فإنه لا يصدق في رده ولا في تلفه بعده‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ الوصي والغاصب كالمودع في كون الربح لهما إذا اتجرا بالمال لأنفسهما بخلاف المقارض والمبضع معه فليس لهما أن يتجرا لأنفسهما، فإن فعلا فالتلف والخسر عليهما والربح لرب المال، وكذا الوكيل‏.‏ وتقدم آخر اختلاف المتبايعين ما إذا قال الوكيل‏:‏ اشتريته لنفسي، وقال الموكل‏:‏ بل لي فانظره هناك قال في المنهج‏:‏

والربح تابع للمال ما عدا *** غصباً وديعة وتفليساً بدا

ومراده المفلس يوقف ماله فيتجر فيه فالربح له لا للغرماء، وهذا على القول بأن ضمانه إذا تلف منهم لا من المفلس، وأما على أن الضمان من المفلس فذلك باق على قاعدة اتباع الربح للمال، والمشهور أن ضمان العين منهم وضمان العرض منه وعليه فإنما ذلك بالنسبة للمفلس في ربح العين فقط‏.‏

الثاني‏:‏ كون الربح للمودع ومن في معناه واضح إن كانت الوديعة دنانير أو دراهم وإن كانت عرضاً فربها مخير في الثمن أو القيمة يوم التعدي فإن اختار القيمة فلا كلام، وإن اختار الثمن فإن كانت فيها زيادة قبل البيع فهي للمودع بالكسر وما حدث بعد البيع فللمودع بالفتح كأن يكون العرض بعشرة فباعه بعشرين واشترى به سلعة باعها بثلاثين فالربح في البيعة الأولى وهو عشرة لربها، وفي الثانية وهو عشرة للمودع بالفتح، وأما إذا كان يبيع العرض بالعرض وهلم جرّا فلا ربح له وله الأجرة قاله الزرقاني‏.‏ ومحل التخيير في الثمن والقيمة إذا مات، وأما إن كان قائماً فيخير بين الإجارة وأخذ الثمن أو رد البيع وأخذ عرضه‏.‏

وَالقَوْلُ قَولُ مُدَّعِ فيما تَلِفْ *** وَفي ادَّعَاءِ رَدَّهَا مع الْحَلِفْ

‏(‏و‏)‏ إذا طولب المودع برد الوديعة فقال تلفت أو قال رددتها ففي الأول ‏(‏القول قول مدع فيما تلف‏)‏ منها مطلقاً كلاً أو بعضاً قبضها بإشهاد أم لا‏.‏ لأنه أمين ويحلف إن حققت عليه الدعوى كان ممن يتهم أم لا‏.‏ فإن لم تحقق عليه حلف المتهم ‏(‏و‏)‏ في الثاني القول له أيضاً ‏(‏في ادعاء ردها‏)‏ لربها ‏(‏بعد الحلف‏)‏ متهماً كان أم لا‏.‏ حقق عليه ربها الدعوى أو اتهمه فقط في عدم الرد، فإن نكل حلف ربها في دعوى الرد مطلقاً، وفي دعوى التلف إن حقق عليه عدمه فإن اتهمه فقط غرم بمجرد نكوله ومحل كون القول له في الرد‏.‏

ما لمْ يَكُن يَقْبَضُهُ ببَيِّنَه *** فَلاَ غِنَى في الرَّدِّ إنْ يُبَيِّنَه

‏(‏ما لم يكن‏)‏ المودع بالفتح ‏(‏يقبضه‏)‏ أي الشيء المودع ‏(‏ببينه‏)‏ مقصودة للتوثق وتقدمت حقيقتها في القراض ‏(‏ف‏)‏ إنه حينئذ ‏(‏لا غنى‏)‏ له ‏(‏في‏)‏ دعوى ‏(‏الرد‏)‏ عن ‏(‏أن يبينه‏)‏ ويقيم البينة عليه ولا تقبل دعواه الرد بدونها إذا ما قبض بإشهاد لا يبرأ منه إلا به‏.‏

تنبيه‏:‏

من ادعي عليه بوديعة فجحدها وأقام ربها بينة بالإيداع فأقام المودع بينة بالرد فهل تقبل بينة المودع أم لا‏؟‏ لأنه كذبها بالجحد الأول في ذلك خلاف جار على ضمن الإقرار هل هو كصريحه أم لا، وقد تقدم قول الناظم‏:‏ ومنكر للخصم ما ادعاه الخ‏.‏ وبعضهم يقيد ذلك بمن كان عارفاً بما يترتب على جحده، فحينئذ لا تنفعه بينة الرد وإلاَّ نفعته‏.‏ واعتمد هذا التقييد ‏(‏ح‏)‏ والرهوني وغيرهما، وفيه نظر فإن المعمول به هو الإطلاق كما مر في شرح نص النظم المذكور ونحوه في نظم العمل المطلق حيث قال‏:‏

ولا تصدق جاحد الإيداع *** من أصله في الرد والضياع

ونقل عن سيدي مصباح وغيره أن كون مضمن الإقرار كصريحه هو مذهب المدونة، وبه العمل والقضاء اه‏.‏ وكثير من الناس من يحتج لصحة التقييد المذكور بقاعدة من ادعى الجهل فيما يجهله أبناء جنسه فهو مصدق الخ‏.‏ وهي قاعدة مبحوث فيها فإن صاحب المعيار لما نقلها عن أبي الحسن قال منكتاً عليه ما نصه؛ قال ابن رشد‏:‏ الأصل في هذا أن كل ما يتعلق به حق الغير لا يعذر الجاهل فيه بجهله وما لا يتعلق به حق الغير فإن كان مما يسعه ترك تعلمه عذر بجهله، وإن كان مما لا يسعه ترك تعلمه لم يعذر بجهله، فهذه جملة كافية يرد إليها ما شرد منها اه‏.‏ ونظم كلامه صاحب المنهج، ولذا قالوا الجهل بالسبب مؤثر اتفاقاً كتمكين المعتقة جاهلة بالعتق وإسقاط الشفعة قبل علمه بالبيع والجهل بالحكم غير مؤثر على المشهور كتمكينها جاهلة أن لها الخيار، وإسقاط الشفعة عالماً بالبيع جاهلاً وجوبها اه‏.‏ ومع هذا كله فليس الكلام في المشهور من الأقوال، وإنما الكلام في المعمول به منها، وكل من حكى العمل من المتقدمين والمتأخرين لا يقيده بالعارف بما يترتب على حجره كما تقدم، ولو حكمت تلك القاعدة وعمل بمقتضاها وقلنا يعذر بالجهل في الحكم لم يقف عقد على ساق، إذ الناس كلهم أو جلهم عوام جهال إلا الفرد النادر الذي في حكم العدم، فيلزم على ذلك أن من أقر بألف من خمر مثلاً إذا قال‏:‏ جهلت لزوم الإقرار وأن لفظة من خمر تعد من التعقيب بالرافع أنه يصدق لدعواه من يجهله أبناء جنسه، ويلزم أن من بيع عليه ماله مثلاً بحضرته وسكوته وادعى أنه جاهل بكون السكوت يعد رضا أنه يصدق، ويلزم أن من شهد له أبوه أو ابنه بحق فأقر المشهود عليه بالحق وادعى أنه أقر اتكالاً على صحة الشهادة أنه يصدق، ويلزم أيضاً أن من جهل لزوم الطلاق هزلاً يصدق، وأن المعتقة إذا ادعت أنها جهلت كون التمكين يقطع خيارها أنها تصدق، وهكذا مما لا ينحصر فيؤدي إلى حل عقود العوام كلها أو جلها مع تعلق حق الغير بها، وأي شغب أكثر من فتح هذا الباب ولهذا قال ابن رشد ما قال، وأطلق العمل جميع من تقدم من الموثقين في مسألة التكذيب للبينة ولم يفصل بين جاهل وغيره وما كان يخفى عليهم عذره بالجهل‏.‏ وقد رجح ابن رحال في باب الوكالة أن الإنكار لأصل المعاملة مضر مطلقاً في الأصول وغيرها اه‏.‏ وانظر حاشيتنا على اللامية ولما ذكر أن المودع والمستعير كل منهما أمين لا ضمان على المودع مطلقاً ولا على المستعير فيما لا يغاب عليه كما مرَّ ناسب أن يذكر كل من شاركهما في الأمانة كما أشار له في الترجمة فقال‏:‏

وَالأُمنَاءُ في الّذِي يَلُونا *** ليسوا لشيءٍ مِنه يَضْمنُونَا

‏(‏والأمناء‏)‏ جمع أمين ‏(‏في الذي يلونا‏)‏ مضارع ولي الأمين الشيء يليه إذا تولاه بوجه من الوجوه ‏(‏ليسوا لشيء منه‏)‏ أي من الذي يلون ‏(‏يضمنونا‏)‏ وعدهم الناظم سبعة عشر فأولهم ولي المحجور‏.‏

كالأَبِ وَالوصِيِّ وَالدَّلاَلِ *** ومُرْسِلِ صُحْبَتَهُ بالمَال

‏(‏كالأب والوصي‏)‏ ووصيه ومقدم القاضي والكافر واللقيط فيما التقطه فإنهم مصدقون فيما ادعوا تلفه من مال المحجور، والذي حازوه بأيديهم كان مما يغاب عليه أم لا صداقاً كان أو غيره، ولا ضمان عليهم في شيء من ذلك ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وقبضه مجبر ووصي وصدقا ولو لم تقم بينة، وكذا يصدقون أيضاً في قدر النفقة، وأما دفع المال له بعد بلوغه ورشده فلا ‏(‏خ‏)‏‏:‏ والقول في قدر النفقة لا في دفع ماله بعد بلوغه الخ‏.‏ والمراد بالكافل من حاز طفلاً بماله من غير تقديم عليه لعدم الوصول للقاضي أو لكونهم ببلد لا قاضي بها إذ القيام بالطفل وحفظ ماله حينئذ فرض كفاية على أهل البلد ويسقط بقيام بعضهم به، وأشعرت الكاف أنهم غير محصورين في السبعة عشر التي ذكرها فيدخل الزوج والزوجة إذا كان الصداق مما لا يغاب عليه وهو بيد أحدهما وطلق قبل البناء فإن ضمانه منهما ولا يرجع أحدهما على الآخر بنصفه، فإن كان مما يغاب عليه ولم تقم على هلاكه بينة فضمانه من الذي هو بيده ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وضمانه أي الصداق إن هلك ببينة أو كان مما لا يغاب عليه منهما وإلاَّ فمن الذي في يده، وتدخل الأمة المتواضعة أيضاً إذا كانت تحت يد المشتري فإنه مصدق في ضياعها وضمانها حينئذ من بائعها، ويدخل أيضاً من قلب فخاراً أو زجاجاً بحضرة ربه فيسقط من يده فلا ضمان عليه فيه كما مرّ في فصل بيع العروض حيث قال‏:‏

ومن يقلب ما يفيت شكله *** لم يضمن إلا حيث لم يؤذن له

ويدخل الوارث إذا طرأ عليه دين أو وارث وادعى تلف ما كان بيده بعد القسمة فإنه يصدق فيما لا يغاب عليه دون غيره كما مرَّ عن ابن رشد عند قوله في القسمة‏:‏ وينقص القسم لوارث ظهر الخ‏.‏ وأما قبل القسمة فهم مصدقون مطلقاً ويدخل أيضاً المكتري لما يغاب عليه، وأحرى غيره كما قدمه في قوله‏:‏

ومكتر لذاك لا يضمن ما *** يتلف عنده سوى أن ظلما

‏(‏والدلال‏)‏ ويقال له السمسار فيصدق فيما ادعى ضياعه كما يصدق في رده إلا أن يأخذه ببينة فلا يصدق في الرد كالمودع قاله البرزلي وغيره‏.‏ ابن رحال في باب الوكالة‏:‏ وهذا على المشهور من عدم ضمانه وأما على ما به العمل من أنه يضمن ما يغاب عليه فلا يقبل منه دعوى الرد اه‏.‏ وفي المعيار أن عياضاً كان يحكم بتضمين السماسرة، واستحسنه ابنه قال‏:‏ ولا سيما في وقتنا هذا حيث قلت الأمانة اه‏.‏ وهذا هو الذي في رواية الأمهات آخر العيوب واستحسنه فضل‏.‏ ابن رشد‏:‏ وله وجه من القياس لأنهم نصبوا أنفسهم لذلك فصار حرفة وصناعة لهم، ولهذا المعنى ضمن العلماء الراعي المشترك وحارس الحمام لتنزيلهم منزلة الصناع‏.‏ ابن الحاج‏:‏ والذي عليه الفتوى والعمل أن السماسرة كالصناع فيضمنون ما يغاب عليه دون غيره اه‏.‏ وإليه أشار ناظم العمل المطلق فقال‏:‏

وألحقوا السمسمار بالصناع *** فضمنوه غائب المتاع

وعليه فهو ضامن لما يغاب عليه ولو ظهر خيره خلافاً لقول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وسمسار ظهر خيره على الأظهر، بل أفتى ابن المكوى بضمانهم ما لا يغاب عليه أيضاً، واختاره ابن رحال في تأليف له قائلاً‏:‏ لقلة أمانة النخاسين‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ إذا ادعى السمسار بيع السلعة من رجل بعينه ودفعها له فأنكره الرجل فقال ابن رشد‏:‏ لا خلاف أنه يضمن ولو كان العرف عدم الإشهاد إذ ليست هذه المسألة من المسائل التي يراعى فيها العرف لافتراق معانيها اه‏.‏ فيؤخذ منه أن شهادة السمسار عليه بالبيع لا تجوز وهو كذلك كما مر‏.‏ وقوله‏:‏ ولو كان العرف عدم الإشهاد خالفه في ذلك ابن أبي زيد قائلاً‏:‏ لا ضمان إن كان العرف عدم الإشهاد‏.‏ قال ابن رشد‏:‏ وما حدث عند نشر السمسار الثوب من تمزيق مسمار ونحوه لا ضمان عليه فيه، فإن قال أهل المعرفة‏:‏ ما حدث فيه لا يكون إلا عن عداء ضمن، وإن قالوا أنه محتمل فهل يحمل على العداء أو على عدمه‏؟‏ في ذلك خلاف والصواب حمله على العداء اه‏.‏ الثاني‏:‏ إذا أرسل شخص سمساراً ليأتيه بثوب يشتريه مثلاً فأخذه من ربه وتلف في يده فضمانه من الدافع، وقيل من المرسل بالكسر لأنه أمين لهما جميعاً فاختلف أي الأمانتين تغلب والأظهر تغليب أمانة المرسل لأنها سابقة اه‏.‏ وعن القابسي فيمن بعث الرجل يطلب له ثياباً فيضيع منها ثوب أن ضمانه من الآمر إن اعترف بإرساله أو ثبت عليه ويحلف السمسار أنه ما فرط وهذا داخل في قوله‏:‏

‏(‏ومرسل‏)‏ بفتح السين سمساراً كان أو غيره ‏(‏صحبته‏)‏ كائنة ‏(‏بالمال‏)‏ ليشتري به ثوباً لك مثلاً أو يوصله لشخص فادعى تلفه قبل الشراء أو بعده، وكذا إن ادعى تلفه قبل وصوله للمرسل إليه فإن ادعى أنه دفعه للمرسل إليه وتلف وصدقه المرسل إليه فلا إشكال، وإن كذبه فهو ضامن ‏(‏خ‏)‏ في الوديعة عاطفاً على ما فيه الضمان أو المرسل إليه المنكر الخ‏.‏ وقال في المدونة‏:‏ ومن بعثت معه بمال إلى رجل صدقة أو صلة أو سلفاً أو ثمن مبيع أو يبتاع لك به سلعة فقال‏:‏ قد دفعته إليه وكذبه الرجل لم يبرأ الرسول إلا ببينة وإن صدقه برىء، وكذلك إن أمرته بصدقة على قوم معينين إن صدقه بعضهم أو كذبه بعضهم ضمن حصة من كذبه، ولو أمرته بصدقة على قوم غير معينين صدق مع يمينه وإن لم يأت ببينة اه‏.‏

وَعَامِلِ القِرَاض وَالموَكِّلِ *** وصَانِعٍ لم يَنْتَصِبْ لِلْعَملِ

‏(‏وعامل القراض‏)‏ مصدق في التلف والخسر والرد إن قبض بلا بينة كما مر في بابه ‏(‏ والموكل‏)‏ مفوضاً أم لا إلا أن غير المفوض إذا وكل على قبض دين ونحوه وادعى تلفه بعد قبضه فإنه لا ضمان عليه ولا يبرأ المدين منه إلا ببينة تشهد بدفعه للوكيل ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولو قال غير المفوض قبضت وتلف برىء ولم يبرأ الغريم إلا ببينة الخ‏.‏ وكذا لا ضمان عليه إذا ضاع الثمن منه قبل دفعه للبائع ولزم الموكل غرمه ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولزمه غرم الثمن إلى أن يصل لربه أي البائع، وكذا يصدق في دفع ما قبضه من دين ونحوه لموكله ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وصدق في الرد كالمودع فلا يؤخر للإشهاد، وأما إذا وكله على دفع الثمن للبائع ونحوه فادعى أنه دفعه إليه وأنكره البائع فإنه ضامن ولا يصدق ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وضمن ان أقبض الدين ولم يشهد ‏(‏وصانع‏)‏ كخياط وصباغ ‏(‏لم ينتصب للعمل‏)‏ للناس وإنما شأنه أن يصبغ أو يخيط لنفسه فقط فواجره بعض الناس على خياطة ثوب أو صبغه وادعى ضياعه فإنه يصدق ولا ضمان عليه، ومثله الصانع الخاص برجل أو جماعة ولو كثروا فإنه لا ضمان عليه أيضاً، ومفهوم لم ينتصب الخ‏.‏ أنه إذا نصب نفسه لجميع الناس ومن تلك الصنعة معاشه، سواء كان يصنع بداره أو بحانوته وكل من أتاه بثوب خاطه أو صبغه مثلاً فإنه ضامن ولو قبضه بغير أجر إلا أن تقوم بينة على تلفه بغير سببه أو صنعه بحضرة ربه أو بمنزل ربه فضاع أو سرق فلا ضمان عليه كما قال‏:‏

وذُو انْتِصَابٍ مِثْلُهُ في عَمَلِهْ *** بِحَضْرَةِ الطالب أو بمنزِلِه

‏(‏وذو انتصاب‏)‏ للصنعة ‏(‏مثله‏)‏ أي مثل غير المنتصب في التصديق وعدم الضمان حيث سرع ‏(‏في عمله‏)‏ بحانوته أو داره ‏(‏بحضرة الطالب‏)‏ أي ربه واستمر معه ولم يغب عنه إلى أن تلف المصنوع بغير سببه ‏(‏أو‏)‏ غاب الصانع على المصنوع ولكن كان يعمله ‏(‏ بمنزله‏)‏ أي منزل الطالب الذي هو به، فإنه لا ضمان عليه أيضاً، وإن كان منتصباً للصنعة لأنه لما ضاع بحضرة ربه أو في منزله انتفت عنه التهمة‏.‏

تنبيه‏:‏

ضمان المنتصب إنما هو في المصنوع لا فيما لا صنعة له فيه كالكتاب الذي ينسخ له منه، وظرف القمح عند الطحان فلا ضمان عليه في الظرف والكتاب المنسوخ منه، وإنما هو أيضاً إذا لم يكن في الصنعة تغرير، فإن كان فيه تغرير مثل نقش فص وثقب لؤلؤ وتقويم سيف وحرق خبز بفرن وحرق ثوب بقدر صباغ فلا ضمان إلا أن يأخذ الصنعة من غير وجهها لعدم معرفته بها أو يعرفها، ولكن تعدى فأخذها على غير وجهها فيضمن حينئذ، ومثل ذلك البيطار يطرح الدابة فتموت، أو الخاتن يختن الصبي فيموت، أو الطبيب يسقي المريض فيموت أو يكويه فيموت من كيه أو يقطع منه شيئاً فيموت من قطعه، أو الحجام يقلع ضرس الرجل فيموت فلا ضمان على واحد من هؤلاء في ماله ولا في عاقلته لأنه مما فيه تغرير ما لم يأخذ الصنعة على غير وجهها قاله ابن رشد‏.‏

والمستعيرُ مِثْلُهم والمرتهِنْ *** في غَيْر قابِلِ الْمَغيبِ فاستبِنْ

‏(‏والمستعير مثلهم‏)‏ أي الأمناء فهو مصدق فيما لا يغاب عليه كما مر ‏(‏والمرتهن‏)‏ كذلك أيضاً هو مصدق ‏(‏في غير قابل المغيب‏)‏ كالحيوان والعقار، وفهم منه أن قابل الغيبة لا يصدق فيه المستعير ولا المرتهن وهو كذلك ‏(‏فاستبن‏)‏ تتميم‏.‏

وَمُودَعٌ لدَيْهِ وَالأَجِيرُ *** فيما عليهِ الأَجْرُ والمأْمُورُ

‏(‏ومودع لديه‏)‏ أي عنده هو مصدق أيضاً في التلف مطلقاً كان مما يغاب عليه أم لا‏.‏ قبضه بإشهاد أم لا‏.‏ ويحلف إن حققت عليه الدعوى مطلقاً فإن لم تحقق حلف المتهم كما مر ‏(‏خ‏)‏ وحلف المتهم ولم يفده شرط نفيها الخ‏.‏ وكذا يصدق في الرد إن قبضه بغير إشهاد كما مرّ ‏(‏والأجير‏)‏ على غسل ثوب أو سقي دابة ونحوهما هو أمين مصدق ‏(‏في‏)‏ ضياع ‏(‏ما‏)‏ أخذ ‏(‏عليه الأجر‏)‏ حيث لم يكن منصوباً لذلك، ويدخل فيه أجير الصانع وصائغه اللذان تحت يده فإنه لا ضمان عليهما، فالصانع يضمن بشروط وهي أن نصب نفسه وغاب عليه ولم يكن في الصنعة تغرير الخ‏.‏ وأجيره وصانعه لا ضمان عليهما لأنهما صانعان لخاص ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على ما لا ضمان عليه وأجير لصانع الخ‏.‏ لكن قال أشهب‏:‏ محل عدم ضمانهما إذا لم يغيبا فقال في الغسال تكثر عليه الثياب فيؤاجر أجراء يبعثهم إلى البحر بالثياب يغسلونها فتتلف أنهم ضامنون، وكذلك أجراء الخياط ينصرفون بالثياب إلى بيوتهم فتتلف أنهم ضامنون‏.‏ ابن ميسر‏:‏ وهذا إذا واجره على عمل أثواب مقاطعة أي كل ثوب بكذا، ابن يونس‏:‏ لأنه حينئذ كصانع دفع إلى صانع ما استعمل عليه، وأما إن كان واجره يوماً أو شهراً فدفع إليه شيئاً يعمله في داره وغاب عليه فلا ضمان عليه اه‏.‏ وكلام ابن ميسر تفسير لكلام أشهب، كما أن قول أشهب تقييد للمدونة كما يفهم من كلام ابن يونس وابن عرفة وغيرهما‏.‏

‏(‏والمأمور‏)‏ بالإتيان لحاجة أو ردها أو وضعها في محل كذا بغير أجر فيدعي تلفها فهو مصدق ولا ضمان عليه، فإن كان بأجر فهو ما قبله على أن المأمور هو الوكيل‏.‏

وَمثْلُهُ الرَّاعِي كذا ذو الشّرِكَه *** في حالةِ البضَاعَةِ المشترَكَه

‏(‏ومثله‏)‏ في التصديق وعدم الضمان ‏(‏الراعي‏)‏ غير المشترك وهو الراعي الخاص بواحد أو جماعة فإنه لا ضمان عليه فيما ادعى تلفه بغير تعد ولا تفريط، وهو محمول على عدم العداء والتفريط ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وهو أمين فلا ضمان عليه ولو شرط إثباته إن لم يأت بسيمة الميت الخ‏.‏ وهذا في الراعي المكلف الرشيد لا غير الرشيد، فإنه لا ضمان عليه ولو تعمد إتلاف الماشية كما مرَّ في قوله‏:‏ ولا ضمان فيه للسفيه الخ‏.‏ وراعي الدولة بالنوبة كالراعي الخاص لا ضمان عليه فيما ادعى تلفه وإن كان محجوراً واسترعاه أرباب الماشية في نوبته أو نائباً عن غيره عالمين به أو عادتهم ذلك فلا ضمان عليه ولو تعمد الإتلاف كما مر‏.‏ وأما الراعي المشترك وهو الذي ينصب نفسه لرعي كل من يأتيه بدابة أو بقرة أو شاة فإنه ضامن لما ادعى تلفه قال في العمليات‏:‏

ضمان راعي غنم الناس رعى *** ألحقه بالصانع في الغرم تعى

وإذا ألحق بالصانع على المعمول به فلا يصدق في الرد كما مر عن المقدمات، وأن كل من لا يصدق في التلف لا يصدق في دعوى الرد، وبه أفتى ‏(‏ت‏)‏ وغيره وهو ظاهر‏.‏ وإن كان كالصانع أيضاً فلا ضمان على أجيره الذي يجعله تحت يده لأنه أجير لخاص كما مرَّ فلم ينصب نفسه لرعي كل دابة يؤتى إليه بها مثلاً ‏(‏كذا ذو الشركة‏)‏ كل منهما مصدق في التلف والخسر وغيرهما ‏(‏في حالة البضاعة المشتركة‏)‏ لأن كلاً من الشريكين وكيل عن صاحبه ‏(‏خ‏)‏ وكل وكيل عن الآخر الخ‏.‏ فيجري فيهما ما تقدم في الوكيل كانت شركة مفاوضة أو عنان وأيديهما تجول في المالين‏.‏

وَحامِلٌ للثَّقْلِ بالإطْلاَقِ *** وَضَمِنَ الطعامَ باتّفَاقِ

‏(‏و‏)‏ وكذا ‏(‏حامل للثقل‏)‏ فإنه مصدق ولا ضمان عليه ‏(‏بالإطلاق‏)‏ حمل على ظهره أو دابته أو سفينته كان المحمول مقوماً أو مثلياً غير طعام كقطن وحناء ونحوها ما لم يفرط أو يقر بفعل كعلمه بضعف الحبل، ومع ذلك ربط به حمل الدابة فانقطع أو انحل فسقط المحمول فتلف فإنه يضمن المثل في المثلى والقيمة في المقوم بموضع التلف، وله من الكراء بحسب ما سار لأن الغرر بالفعل تفريط ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على ما لا ضمان فيه أو انقطع الحبل ولم يغر بفعل الخ‏.‏ وإنما يضمن مع الغرور إذا هلك المتاع من ناحية الغرور لا إن غر وسلم من ناحية الغرور وأخذه اللصوص أو سرق مثلاً فلا ضمان‏.‏

ومن الغرور بالفعل من دفع قمحه إلى رجل ليطحنه فطحنه بأثر نقش الرحى فأفسده بالحجارة فلم يضمن له مثل قمحه كما في المنتخب، ومفهوم بفعل أنه إذا غر بالقول كقوله لرب المتاع الحبل صحيح مع علمه بضعفه فتولى رب المتاع الربط به فهو غرور بالقول، وكذا إن أسلم الدابة لمن يحمل عليها وهو عالم بعثارها فحمل عليها فهو من الغرور بالقول أيضاً، وكمن سأل خياطاً قياس ثوب فقال‏:‏ يكفيك وهو يعلم أنه لا يكفيه أو قلب دراهم عند صيرفي فقال‏:‏ إنها جياد وهو يعلم أنها رديئة، وكبيعه خابية عالماً بكسرها وهو يعلم أن المشتري يعمل فيها زيتاً فجعله المشتري فيها فتلف فلا ضمان، كما لو دلس في بيع عبد بسرقة فسرق من المشتري شيئاً، والمشهور في الغرور بالقول عدم الضمان ما لم ينضم إليه عقد كما لو أكرى خابية عالماً بكسرها لمن يعمل فيها زيتاً فإنه يضمنه‏.‏ والفرق بين البيع والكراء أن المنافع في ضمان المكري حتى يستوفيها المكتري بخلاف البيع‏.‏ انظر شرح الشامل آخر الإجارة ثم اخرج الناظم الطعام من الإطلاق المتقدم فقال‏:‏

‏(‏وضمن الطعام باتفاق‏)‏ وإن لم يفرط ولا تعدى على دعواه، وبه قال الفقهاء السبعة لسرعة الأيدي إليه كان الطعام من الأقوات كالقمح والشعير والأدام أو من الفواكه كالترمس ونحوه، وهو ظاهر، وأنه لا فرق بين أن يدعي ضياعه بعثار دابة أو سرقة أو بغصب أو بسماوي من الله تعالى وهو كذلك إلا أن يأتي ببينة تشهد بذلك من غير تفريط أو ضاع بصحبة ربه لأن ضياعه بحضرة ربه أقوى من قيام البينة على ضياعه لما ذكر‏.‏ واختلف إن حمله في بحر وربه معه‏.‏ اللخمي‏:‏ والضمان أحسن ونحوه لابن يونس عن القبايسي لأنهم يخونونه بالليل، وتحصيل ما يضمنه الحمالون أم لا كما في ابن يونس على خمسة أوجه‏.‏ الأول‏:‏ هلك بسبب حامله من عثار أو ضعف حبل ولم يغر أو بهروب دابة أو سفينة بما عليها فلا ضمان عليه ولا أجرة، ولا يأتي بمثله ليحمله ورجع بالكراء إن دفعه لأنه على البلاغ‏.‏ والثاني‏:‏ ما هلك بسبب غرور حامله من عثار أو ضعف حبل فهلك، فإنه يضمن قيمة ذلك العرض بموضع الهلاك وله من الكراء بحسابه‏.‏ والثالث‏:‏ ما هلك بأمر من الله عز وجل بالبينة من عرض أو غيره فللمكري الكراء بأسره وعليه حمل مثله من موضع هلك فيه‏.‏ والرابع‏:‏ ما هلك من الطعام ولم يعلم ذلك إلا من قولهم فلا يصدقون فيه ويضمنون مثله بموضع حملوه إليه ولهم جميع الكراء‏.‏ الخامس‏:‏ ما هلك بقولهم من العروض ولم يعلم إلا من قولهم فهم مصدقون فيه ولهم الكراء بأسره، وعليهم حمل مثله من موضع هلك فيه إلى موضع يحمله إليه كالذي هلك بالبينة بأمر من الله اه‏.‏ ونقله أبو الحسن والقرافي وغيرهما مسلماً‏.‏

قلت‏:‏ قوله‏:‏ وعليهم حمل مثله الخ‏.‏ لعله إذا كان ربه يقدر على خلافه وإلاَّ فتنفسخ الإجارة وله من الكراء بحساب ما سار كما قالوه فيمن استؤجر على حصاد زرع ليس لربه غيره فتلف أو استؤجر على الحرث في يوم فانكسر المحراث ونحو ذلك، فإن الإجارة تنفسخ كما مرَّ في الإجارة‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ ما تقدم من أنه يضمن مثل الطعام في المحل الذي يحمله إليه محله إذا علم كيله وإلا فيضمن قيمته‏.‏ اللخمي‏:‏ وأنا أرى إن تحاكما في موضع هلاكه غرم مثله فيه وإن تحاكما في موضع وصوله غرمة فيه انظر بقيته‏.‏

الثاني‏:‏ إن شرط الحمال سقوط الضمان في الطعام أو لزوم الضمان في العروض، فروى محمد أن الشرط ساقط والعقد فاسد فإن فات فله كراء المثل‏.‏ وفي المدونة قال الفقهاء السبعة‏:‏ لا يكون كراء بضمان أي في العرض إلا أن يشترط على الحمال أن لا ينزل ببلد كذا أو وادي كذا ولا يسير بليل فيتعدى ما شرط عليه فتلف شيء مما حمل في ذلك التعدي فيضمنه اه‏.‏ وكذا يقال في الطعام مع قيام البينة وقد شرط عليه ما ذكر‏.‏ والفقهاء السبعة‏:‏ سعيد بن المسيب بكسر الياء المشددة، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن بسار‏.‏ واختلف في السابع فقيل‏:‏ هو أبو بكر بن عبد الرحمن‏.‏ ففي المدونة قال مالك‏:‏ علم القضاء كغيره من العلوم، ولا أعلم بهذا البلد أحداً أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وكان أخذ شيئاً من علم القضاء من أبان بن عثمان، وأخذ ذلك أبان من أبيه عثمان اه‏.‏ وقيل‏:‏ هو أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم، قال البرزلي في أول الأقضية‏:‏ اختلف في هذين أيهما أحد الفقهاء السبعة فقيل‏:‏ الأول، وقيل‏:‏ الثاني والآخر أحد النظراء‏.‏ وهم أي النظراء السبعة‏:‏ سالم بن عبد الله، وأبان بن عثمان، وعلي بن الحسين، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعلي بن عبد الله بن عباس، وأبو بكر بن عمر بن حزم، وعبد الله بن هرمز، فهؤلاء الأربعة عشر من التابعين أفقه أهل زمانهم‏.‏ قال‏:‏ والفقهاء السبعة حجة عند مالك اه‏.‏ وعلى كون أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام هو أحد الفقهاء لا أحد النظراء نظم بعضهم حيث قال‏:‏

ألا كل من لا يقتدى بأئمة *** فقسمته ضيزى عن الحق خارجه

فخذهم عبيد الله عروة قاسما *** سعيد أبا بكر سليمان خارجه